تركيا بين السوريين ونظام الأسد
يناقش بعض السوريين قضية احتمال استعادة العلاقات التركية مع نظام الأسد وكأنها لب القضية السورية، مستندين إلى عوامل ومعطيات، تتصل بموقع وعلاقات تركيا بالقضية السورية، منها وجود نحو أربعة ملايين سوري مقيمين فيها، وحضور أغلب جماعات المعارضة فيها، وصلات أغلبهم مع الدولة التركية وأجهزتها، إضافة إلى وجود عميق ومتعدد الأوجه في منطقة السيطرة التركية شمال غربي البلاد، البالغ سكانها نحو أربعة ملايين نسمة، كما يستند البعض في نقاش القضية إلى ما يأملون من سياسة تركيا باعتبارها بلداً محكوماً بحزب إسلامي شقيق للإسلاميين السوريين، وتربطها بسوريا والسوريين روابط كثيرة تاريخية دينية وثقافية، وهي أبرز البلدان التي ناصرت ثورة السوريين.
وإذا كان من حق الجميع أن يطرحوا أفكارهم ووجهات نظرهم حول موقع ودور تركيا في القضية السورية، فإن ذلك لا يجعل من الدور التركي محورياً، ولا يجعل موضوع احتمال استعادة علاقات تركيا مع نظام الأسد أمراً شديد الخطورة في القضية، وكله لا يبرر ولا يستحق ما يبدو أنه ردة فعل سورية، إلا من باب أن ليس لدى السوريين سوى نقد الآخرين واتهامهم، بدل أن يفعلوا ما ينبغي أن يفعلوه، ومنه تجاوز الغضب على الأتراك ليشمل الدور الروسي في التأثير على تركيا، أو وضعهما في سلة واحدة.
ارتبطت تركيا مع نظام الأسد بعلاقات قوية قبل عام 2011، غير أن العلاقات تردت بشكل متسارع في ضوء عدم استجابة النظام لنصائح الأتراك، ومساعيهم لإيجاد حل، وهو سلوك كرسه الأسد مع كل المساعي العربية والدولية، وفتحت تركيا أبوابها أمام السوريين طبقاً لمصالح تركيا الكبرى، دون إغفال أسباب إنسانية وأخلاقية، كان من الصعب تجاوزها أمام المقتلة السورية، وجاء إلى تركيا معارضون من تلاوين مختلفة وسط أمل بحل قريب؛ لكن الوقائع جرت بصورة مختلفة؛ حيث توالت تطورات محلية وإقليمية ودولية، فرضت آثارها وتعقيداتها، وأطالت فترة الصراع في سوريا وحولها، لا سيما بعد دخول روسيا خط الصراع، مما دفع تركيا نحو تبديل بعض من تفاصيل موقفها السوري وعلاقاتها مع السوريين وتشكيلاتهم السياسية والمسلحة. ومن هذه النقطة يمكن مناقشة فكرة احتمال الانفتاح التركي باتجاه نظام الأسد.
إنَّ الأبرز في دوافع الانفتاح التركي على نظام الأسد، يتمثل في نقاط أبرزها أربعة: الأولى تصاعد مطالب الأحزاب التركية لتغيير سياسة أنقرة السورية، لتشمل ترحيل السوريين أو جزء منهم، والحد من الوجود والتدخل التركي في سوريا، والانفتاح على نظام الأسد، وهذه التوجهات لم تعد حكراً على أحزاب المعارضة؛ بل امتدت إلى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم. والثانية تمثلها الضغوط الروسية- الإيرانية على أنقرة التي انتظمت منذ عام 2016 في إعلان موسكو حول سوريا، من أجل تقارب سياسات الدول الثلاث في سوريا، وبالاستناد إليها توبعت على مدار السنوات الماضية مساعي الثلاث عبر آستانة وسوتشي، بهدف دمج تركيا في مسار الحل الروسي. والنقطة الثالثة صعود موجة دولية للانفتاح على نظام الأسد والتواصل معه، ولو في قضايا محددة، منها إعادة النازحين واللاجئين إلى سوريا، ووجود أكبر مجموعة منهم في تركيا؛ حيث يبلغ عدد السوريين في تركيا قرابة الأربعة ملايين نسمة.
النقطة الرابعة، وهي الأكثر أهمية وإثارة في الموضوع، وجوهرها رغبة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في تجديد فترة رئاسية جديدة، وتأكيد بقائه في المشهد السياسي التركي، وكلاهما أمر ينبغي أن تؤكده الانتخابات الرئاسية المرتقبة عام 2023، وهو ما يعمل عليه إردوغان وحزبه بكل جهد وجدية مع الجميع وفي كل المستويات والمجالات، من دون الدخول في مواجهات داخلية أو سياسات خارجية ذات أثر سلبي على ما يتمناه من النتائج التي يرغب أن ترسمه زعيماً لتركيا في مواجهة زعامة كان قد كرسها كمال أتاتورك طوال القرن الماضي.
إن أخذ إردوغان وحزبه النقاط الأربع من أجل تجديد سياسة تركيا السورية، أمر مؤكد؛ بل إن تجديدها دخل طور التنفيذ وفق كل المعلومات والتسريبات التي تخرج من مطبخ السياسة التركية في أنقرة، الذي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن الأمور تجري بطرق سلسة على قاعدة عدم الرغبة في استفزاز أحد، بما فيهم السوريون في تركيا، أو في منطقة السيطرة التركية شمال غربي سوريا.
ووفق مجددي سياسة أنقرة، فإنَّ فتح الباب للعلاقة مع نظام الأسد، خطوة نحو تحريك القضية السورية، وطرق أبواب جديدة فيها، واجتماعات آستانة يمكن أن تعوض الإغلاق الذي صار إليه مسار جنيف؛ خصوصاً بعد تعطيل اجتماعات اللجنة الدستورية، وتأكيد دور تركيا في سوريا؛ لا سيما في شمالها، الذي يركز في الحرب على «قوات سوريا الديمقراطية» تحت لافتة الأمن القومي التركي. وعودة السوريين من تركيا لا تشمل الجميع، رغم تنامي النزعة العنصرية ضد السوريين؛ بل خطة مليون سوري تكون عودتهم طوعية وبشروط مقبولة يتم توفيرها، بينما يجري الإعداد لها من بنى سكنية وخدمية في منطقة السيطرة التركية.
سياسة تركيا السورية بمحتوياتها القديمة منها والجديدة، سوف تسعى لتكون هادئة قدر المستطاع، عينها مفتوحة على الهدف الرئيس، وهو تمرير الوقت بأقل قدر من الخسائر، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية عام 2023 التي قال عنها إردوغان: فزنا بـ15 جولة انتخابات، وعازمون على تحقيق فوز آخر عام 2023، وفي الطريق إلى الاستحقاق ستكون الخطوات محسوبة، ولا تشكل فارقاً عميقاً في سياسة تركيا السورية؛ لأن من المبكر تجاوز ما خلفته تطورات العقد الماضي من آثار في تركيا وفي سياساتها. من الصعب تجاوز ما يعنيه الوجود السوري في تركيا الذي يبلغ نحو أربعة ملايين من السكان، بينهم نحو مليون من العاملين بأجور مخفضة وساعات عمل أطول، وأكثرهم غير مسجل في أي نظام تأمين، مع وجود نحو مائتي ألف سوري صاروا من حملة الجنسية التركية، ووصول عدد الشركات التي يملكها سوريون في تركيا إلى نحو ثلاثة عشر ألف شركة، تشكل نحو الثلث من مجموع الشركات المملوكة للأجانب، وتجاوز حجم استثمارات السوريين هناك ما مجموعه مبلغ عشرة مليارات دولار، ويستدر وجود السوريين في تركيا مالاً تدفعه مؤسسات ومنظمات دولية ودول على شكل إعانات ومساعدات، ومنها مساعدات الاتحاد الأوروبي، تديرها وتستفيد منها الحكومة التركية، كما تدخل إلى تركيا مساعدات أهلية يقدمها أفراد إلى ذويهم وعائلاتهم، لرفع قدراتهم على العيش في تركيا؛ لا سيما بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد في السنوات الأخيرة، وخلفت بطالة وغلاء وفقراً متزايداً في أوساط الفئات الدنيا من السوريين هناك.
وبالتوازي مع حال السوريين في تركيا التي سيكون من الصعب على تركيا التعامل معه بالانقلاب عليه أو تجاهله، فإن من الصعب عليها تجاهل واقع نظام الأسد على ما به وما صار إليه من تردٍّ في السياسات أدى إلى خراب شبه كامل للدولة والمجتمع في كل المستويات؛ بل هو عاجز عن مجرد إيجاد مخارج من نتائج تلك السياسات.
وسط لوحة معقدة من معطيات وظروف، تتحرك أنقرة سواء لتمرير الوقت، أو للقيام بدور عجز أو عزف آخرون عن القيام به، فإنها مستفيدة، والسوريون بعد أن خسروا الكثير، قد يربحون فتحاً لمسار حل يوقف الترديات تحت ظل سلطات الأمر الواقع، ووسط لاجئي دول الجوار، وإن لم يربحوا ذلك، فإن تمرير الوقت لن يعطي أحداً قدرة على تعريض وجود السوريين في تركيا إلى خطر كبير.