وسط مخاوف من تصعيد التوتر.. موسى هلال مؤسس الميليشيات ينضم للجيش
تشير تفسيرات العنف السياسي في السودان إلى دور الدولة بقدرتها على كبح جماح الحركات المسلحة المتمردة أو تحفيزها من واقع اعتقادها بأن العنف وظيفة استراتيجية تلجأ إليها في معظم الأوقات، بدحره أو تقديم حوافز لتنظيمه واستخدامه لمصلحتها.
ومن ضمن الحركات الكثيرة التي كان ولا يزال لها دور وعلاقة وطيدة بين خصائص النظام الحاكم والحرب الأهلية في دارفور حركة “مجلس الصحوة الثوري” التي يحاول زعيمها موسى هلال، مؤسس ميليشيات “الجنجويد” عام 2003، خلق توازن في قائمة الحركات المسلحة في السودان، خصوصاً في دارفور حيث تنتشر الحركات من إثنيات ذات جذور أفريقية تنتمي إلى قبائل الزغاوة والفور وغيرها، وتتكون قواتها أيضاً من إثنيات أفريقية، بينما تسيطر على الإقليم عملياً قوات “الدعم السريع” التي تنتمي إلى قبيلة الرزيقات ذات الجذور العربية وتتكون قواتها من عرب الصحراء الكبرى.
في هذا المفترق ظهر زعيم “الجنجويد” السابق وهو من قبيلة المحاميد أحد أكبر بطون قبيلة الرزيقات على رأس حركته لينفي مشاركته في الحرب السودانية الدائرة منذ أبريل الماضي لمصلحة “الدعم السريع“، رداً على تقرير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة الذي يتهمه بذلك.
ظهور هلال في المشهد الآن لا ينفي ولا يثبت بصورة قاطعة تعاونه مع أي من طرفي النزاع بقدر ما يربك حساباتهما، بوصفه جزءاً منهما في وقت سابق، ومع ذلك فقد يعتقد بعضهم بأنه يحقق بعض الانتصار بتحالفه مع الجيش، لكن لن تؤدي هذه الخطوة إلا إلى انهيار الدولة وهي المحصلة النهائية حتى لو تمت ببطء لأن الحكومة فشلت في احتواء التحديات السلوكية للحركات المسلحة على نحو فاعل.
استنزاف الجيش
كانت لنظام عمر البشير قدرة عالية على قمع أي شكل من أشكال المعارضة التي تمثلت في المعارضة السياسية النشطة، ولكن الحركات المسلحة التي تمردت على نظامه في دارفور، كانت تسير قواتها من خارج الحدود لتشن هجماتها على إقليم دارفور، وأسهم في عدم الاستقرار الإقليمي نشوب الحرب التشادية- الليبية عام 1987 التي شاركت فيها حركات متمردة عدة وتزودت منها بسيارات “لاندكروزر” ذات الدفع الرباعي واستخدمتها في حربها مع القوات الحكومية السودانية.
ولما كانت الحرب الأهلية في جنوب السودان استنزفت الجيش، بسبب وجود ميليشيات تابعة لتنظيم “الإخوان المسلمون” عرفت باسم “قوات الدفاع الشعبي”، أسس نظام البشير أيضاً ميليشيات “الجنجويد”، ووجد أن موسى هلال هو الشخص المناسب لهذه المهمة، فقد اتهم بالتحريض على النزاعات الإثنية في بعض مناطق دارفور، وسجن في تسعينيات القرن الماضي بتهم جنائية تتضمن قتل 17 شخصاً من جذور أفريقية وسرقة بنك نيالا المركزي.
وعام 2003 أمر حاكم شمال دارفور بسجن موسى هلال في بورتسودان، لكن أطلق سراحه في السنة نفسها نائب الرئيس وقتها علي عثمان طه، وهو الرجل الثاني في تنظيم “الإخوان المسلمون” بعد الترابي، حتى حدوث المفاصلة عام 1999.
استثمر طه في هلال مستفيداً من ذخيرة الخلاف بين إثنيته ذات الجذور العربية وبين الإثنيات الأفريقية في دارفور، فمنحه سلطة تجنيد وقيادة قوات ميليشيات “الجنجويد” التي تشكلت بذرتها في الفترة الانتقالية بعد ثورة أبريل 1985 التي أنهت حكم الجنرال جعفر النميري.
في ذلك الوقت، أوفد “حزب الأمة” بزعامة الصادق المهدي والذي كان يمثل غالبية في برلمان الفترة الانتقالية، اللواء فضل الله برمة ناصر لتوزيع السلاح على القبائل العربية في مناطق دارفور وكردفان لحمايتها من اجتياح “قوات الجيش الشعبي” التابع لـ”الحركة الشعبية لتحرير السودان” بزعامة جون قرنق دي مابيور، وكان الغرض المعلن من تسليح القبائل العربية التي كانت تسمى “المراحيل” حماية مواشيهم من استهداف قوات الحركة الشعبية منطلقة من إقليم جنوب السودان المتاخم، ولكن الهدف الأساس كان أن تحارب هذه الميليشيات العربية إلى جانب القوات المسلحة السودانية ضد الجيش الشعبي.
تحفيز الميليشيات
بعد استيلاء نظام البشير- الترابي على الحكم، استمر في تسليح القبائل بقيادة موسى هلال، ثم عينه البشير مستشاراً بدرجة وزير في ديوان الحكم الاتحادي، بينما ظلت قواته مرابطة في بادية مستريحة بشمال دارفور ونجح في السيطرة على منجم ذهب بجبل عامر بدارفور.
عمل نظام البشير على تحفيز الميليشيات وسعى إلى مكافأتها لشراء ولائها وتجنب أي تحدٍّ للقيادة، واستمر في ذلك بتخصيص الأموال ومنح المناصب، وتجسدت خلال تلك الفترة في استقطاب منهجي لمجموعات مستهدفة، من ضمنها الإسلاميون والمجتمع الإقليمي في دارفور الذي تمثله القبائل العربية، لتشكل المحسوبية عنصراً أساساً في نظام الحكم، بينما تتعرض بقية الإثنيات للتهميش.
استمر هذا الوضع حتى تمكن موسى هلال من السيطرة على مناطق سرف عمرة وكُتم وقبقباية والواحة في شمال دارفور من معقله في بادية مستريحة، وأحست الحكومة بخطر تمدد هلال، فأوعزت إلى ابن عم هلال، محمد حمدان دقلو “حميدتي” بالانشقاق عليه، وأسست قوات “الدعم السريع” رسمياً عام 2013، بهيكلة جزء من قوات “الجنجويد” تحت قيادة جهاز الأمن والاستخبارات الوطني، ثم انشق هلال عن “حزب المؤتمر الوطني” عام 2014، وأطلق حركة جديدة باسم “مجلس الصحوة الثوري”.
وعام 2017 نشبت خلافات حادة بين الحكومة السودانية وموسى هلال حول “مشروع جمع السلاح” الذي يعارضه هلال، وعندما عرضت عليه الحكومة الوساطة، طالب بـ “مشاركة مجلس الصحوة في السلطة التنفيذية والتشريعية، وقيام مشاريع حقيقية للتنمية والخدمات في مناطق الرُحَّل، وحسم الملف العسكري الخاص بدمج قواته مع قوت الدعم السريع“.
وفي الوقت ذاته، كانت المعارك تدور بين قوات “الدعم السريع” ومجموعة مسلحة تابعة لموسى هلال من جهة، و”الدعم السريع” إلى جانب الجيش السوداني في مواجهة الحركات المتمردة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والتي توحدت تحت تنظيم “الجبهة الثورية” من جهة أخرى.
تحرك “حميدتي” بتفويض من رئاسة الجمهورية واعتقل هلال وعدداً من أبنائه وقيادات حركته بعد معارك قُتل فيها ابن هلال، ثم خضع لمحاكمة عسكرية لأنه كان ضمن قوات “حرس الحدود” (الجنجويد) التابعة للقوات المسلحة السودانية ويعاقب بقانون القوات المسلحة، ووجهت إليه تهم منها “تقويض النظام الدستوري وإثارة النعرات القبلية والحرب ضد الدولة والتمرد على النظام القائم”، وتصل عقوبات بعض التهم الموجهة ضده إلى الإعدام في حال الإدانة.
تغذية الصراع
خلال فترة اعتقاله، تعرض هلال لمحاولة اغتيال من جهة مجهولة أثناء عودته من المحكمة العسكرية لمقر احتجازه، بينما تغاضت الحكومة عن تنفيذ الحكم عليه، ثم عُقدت مصالحة بينه و”حميدتي”، وظل في معتقله حتى بعد سقوط نظام البشير عام 2019، وفي 2021 صدر قرار رئاسي بإطلاق سراحه بعد سجن دام لأربع سنوات.
كانت الأمم المتحدة وضعت هلال على لائحة عقوباتها بعد اتهامه بارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان وفظائع واسعة ضد المدنيين أثناء النزاع في دارفور الذي راح ضحيته أكثر من 300 ألف قتيل ونزوح قرابة 3 ملايين شخص، وفقاً لتقارير عام 2006.
وشكل إطلاق سراح هلال قلقاً إزاء تصعيد التوتر وتغذية الصراع القبلي في دارفور، ولكن ظل نشاطه خلال العامين الماضيين محدوداً إلى أن اندلعت الحرب وخرج بتصريحات في مايو (أيار) الماضي وصف فيها العناصر في قوات “الدعم السريع” بأنهم “مرتزقة ولا قيم لديهم”، وقال “لا علاقة لهذه القوات بقبيلة الرزيقات أو تاريخها، ومعظم القوات الموجودة الآن في ’الدعم السريع‘ ليست سودانية وإنما أتت من بلدان مجاورة بسبب ظروف طبيعية مثل المجاعات وظروف معيشية وعدم الاستقرار”.
وطالب هلال الشباب من القبائل العربية مثل العطاوة والرحيمات والبني هلبة وبطون الرزيقات الأخرى مثل الماهرية والمحاميد والعريقات أن ينسحبوا من القوات وأن يعودوا لأهلهم وأسرهم، وأكد أن “ما يتم الآن فتنة ستفكك بطون الرزيقات ولن تقف عندها وإنما ستطاول كل إقليم دارفور، وبعدما كانت الحرب في مناطق يمكن حلها، الآن ستعم كل الإقليم حتى المناطق التي لم تشهد نزاعاً من قبل”.
المساومة بالعنف
تأسيس هذه الميليشيات وانقساماتها، يلفتان إلى براعة النظام العسكري ممثلاً بعهد البشير، ثم حكم الشق العسكري الشريك في الفترة الانتقالية، ثم الانفراد بالحكم مرة أخرى بعد انقلاب عبدالفتاح البرهان في 2021، ويظهران أن العنف هو أداة للمساومة السياسية يلجأ إليها النظام الحاكم لتحقيق أهداف سياسية، في مقدمتها بقاؤه في السلطة، واستخدم النظام الموارد والمناصب والمصالح والقضاء على المعارضين السياسيين، مستفيداً من ضعف النخب السياسية وانقساماتها.
وأدى طول عهد السودان في استخدام استراتيجية “المساومة بالعنف”، إلى نتيجتين الأولى أن أصبح العنف أحد الأدوات التي تستخدمها جهات فاعلة عدة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال وقوف القوى السياسية المدنية وراء إحدى الجهات التي تحتكر العنف، سواء كانت رسمية ممثلة بالحكومة وجيشها أو الميليشيات والحركات المسلحة، أما الثانية فهي أن العنف أصبح الداعم الأساس للتسويات السياسية.
وتبدو النتيجتان أكثر وضوحاً في إقليم دارفور، حيث شكا الحاكم العام للإقليم مني أركو مناوي من تصاعد وتيرة التجييش والتجنيد في الإقليم، في سياق الصراع بين الجيش وقوات “الدعم السريع“.
إضعاف القاعدة القبلية
وعلى رغم تعرض هلال للسجن، لكن كثيراً من الميليشيات تؤيده، ويتوقع أن تحاول القوات المسلحة الاستفادة منه مرة أخرى باستقطاب القبائل ذات الجذور العربية لإضعاف القاعدة القبلية لقوات “الدعم السريع“.
ويرجح أن يحرص هلال بدوره على الاستفادة من ولاء الميليشيات المتفرقة، خصوصاً بعدما أصدر المكتب القيادي الأعلى لـ”مجلس الصحوة الثوري” عزله من منصبه لارتكابه مخالفات لدستور المجلس، أدرجها في أنه “متورط في عمليات تجنيد قوات المجلس لمصلحة أحد طرفي النزاع ومشاركته في حملة لإطلاق سراح البشير والعمل لمصلحة قوى معادية لانتفاضة 2018”.
هذه التطورات من شأنها أن تصرف الأنظار نوعاً ما عن قوات “الدعم السريع“، وبدأ ذلك يظهر في إشارات عدة، هي أولاً، أن الأمم المتحدة جددت إدراج هلال في قوائمها السوداء بتهمة تأسيس ميليشيات “الجنجويد” التي شاركت في أعمال الإبادة الجماعية في دارفور، وعرض واشنطن مكافأة بحوالى 5 ملايين دولار لمن يساعد في اعتقال أحمد هارون المطلوب لدى محكمة الجنايات الدولية والمتهم بارتكاب جرائم حرب في دارفور.
والإشارة الثانية هي تركيز المجتمع الدولي على مبدأ التفاوض بين الجيش و”الدعم السريع” لوقف الحرب واقتصار العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على شركات تابعة للطرفين وليس على قياديتهما.
وثالثها هو بروز نجم هلال باعتباره لاعباً أساساً في تأسيس الميليشيات سيمكن جهات عدة من تحميله المسؤولية كاملة، مما يضعف الموقف الذي ينادي بمحاسبة “الدعم السريع” وإخلاء ساحته من الجرائم السابقة، فيحقق مكسباً كبيراً للقوات، وحتى لو اقتصر الأمر على التركيز على أحداث دارفور والتطهير العرقي في مدينة الجنينة خلال الحرب الحالية، فستحتاج إلى أعوام عدة حتى توجه التهمة مباشرة إلى “الدعم السريع“.