سعت طهران منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض إلى الإيحاء بأن المنطقة والعالم باتا على صفيح ساخن.
إن لم يُحسِن الرئيس الأمريكي وطاقم إدارته التصرف تجاه إيران بما يتوافق مع رغباتها وميولها ونزعاتها ، تارة تلجأ للتلويح بالتمرد نووياً على جميع الاتفاقات والبروتوكولات الموقعة مع وكالة الطاقة الذرية وصولاً إلى غايتها في حيازة السلاح النووي ، ومرات كثيرة تدفع وكلاءها في غير مكان إلى التحرش والابتزاز للفت الانتباه إليها .
التوتر المشاع ظاهرياً من جانب إيران بشأن واقع ومستقبل علاقاتها مع الولايات المتحدة ، ولهاثُها لإحياء الاتفاق السابق ، أو بلورة اتفاق جديد مرتكز إلى سابقه ، يقابله إيقاع منضبط من الجانب الأمريكي مستند إلى مسلمات محددة بشأن حزمة من المطالب الأمريكية والأوروبية والإقليمية لبناء الثقة ؛ أولاً عبر طمأنة المجتمع الدولي من قبل النظام الإيراني ، واستعداده ثانياً للتوقف عن نهجه التوسعي والاستفزازي في المنطقة .
ماذا يمكن أن يحدث في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق جديد ، أو متجدد ، يلبي ويصون مصالح الجميع ؟ أيُّ خيارات بين يدي طهران أكثر مما استعرضته على المستويين السياسي والميداني ؟ على الطرف الآخر ؛ كيف ستتعامل واشنطن مع التهور الإيراني ، إن حدث ، ضد مصالحها وحلفائها في العراق أو في عموم المنطقة ؟
مستبعَدٌ تماماً أن تكون إيران قادرة على تنفيذ تهديداتها أو ترجمتها على أرض الواقع بالحجم والتهويل الذي مافتئت تضخه في جميع منابرها ، ولا يعدو الأمر عن كونه محطات تسخين موجهة نحو الداخل الإيراني ببعديه السلطوي والشعبي، والخارجي أيضا من باب التحرش . في البعد الداخلي ؛ يبرز صوت وانتقادات التيار المتشدد والمتطرف داخل السلطة المناهض لأركان الحكم ، حيث يخشى النظام القائم من تأثيره عليه وعلى صورته أكثر وهو على أبواب الانتخابات بعد بضعة أشهر بعد أن ارتفعت أصواتهم واتهاماتهم لإدارة روحاني بالتفريط والضعف ، لذلك يطلق الجناح العسكري للحكم في إيران تصريحات وتهديدات أقرب إلى البهلوانيات منها إلى المنطق والواقع من باب المزايدة على المتطرفين داخل منظومة السلطة ليس أكثر ، أما المستهدف الآخر بالماكينة الإعلامية الرسمية فهو عامة الشعب الإيراني الرازح تحت وطأة القمع والحاجة والمعاناة اليومية ، ويقتات على خطابات المسؤولين عن محنته وهم يتذرعون بالضغوط الخارجية كسبب لما يمر به الإيرانيون ويكابدونه . الفصام بين الشعب الإيراني بغالبيته ونظام حكمه واقع لا ينكره ذو بصيرة ، ومن شأن هذا الشقاق أن يتعمق على وقع الصعوبات المتنامية التي تواجهه . أما رسائل التهويل والوعيد للخارج فلا تنمّ سوى عن محاولة إيرانية للتأثير على مواقف بعض العواصم الغربية المعنية بمسألة الاتفاق النووي المنشود لالتقاط تحوّل ما لدى البعض ، في حال وجوده ، للبناء عليه ، لكن ذلك لم يحدث لسببين ؛ أولهما سلوك إيران خيار الاستعراض المصحوب باندفاعة إعلامية امتزج فيها التهديد بالوعيد ، والتحذير بالابتزاز ، في مشهد عكس اضطراباً في إدارة الأزمة من جانب ، ومن جانب آخر أدت المبالغة في التصعيد حول بدائلها الذاتية من رفع مستوى تخصيب اليورانيوم ، إلى مضاعفة إنتاج أجهزة الطرد المركزي ، وصولا إلى “القنابل الصوتية” التي أطلقتها أذرعها على هذه الأرض أو تلك ، إلى إثارة مزيد من الشكوك والتوجس الدولي حول حقيقة ما يضمره الجانب الإيراني ، وحول جديته في الالتزام مجدداً بما قد يتم الاتفاق عليه مستقبلا ، توجس اتضح جلياً في تغير خطاب الأوروبيين الشركاء في طرف الاتفاق السابق ؛ انتقلوا من السياقات الدبلوماسية والتوجهات الجادة لبلورة قواسم مشتركة بين الطرفين إلى إدانة السلوكيات الإيرانية بما فيها الخطاب الإعلامي والسياسي الاستفزازي .
تظن طهران أنها قادرة على أخذ المنطقة رهينة لحساباتها ومشاريعها ونزعاتها التوسعية إلى ما لانهاية ، وتحويلها إلى ورقة تفاوضية لخدمتها متجاهلة مصالح دول المنطقة والإقليم ومصالح حلفائهم الاستراتيجية . من البداهة ، في سياق هذه المقاربة ، النظر بواقعية إلى حالة الضعف والتصدعات التي تضرب أوصال مختلف القطاعات الإيرانية الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والتنموية ، وهي حواضن أساسية ومرتكزات جوهرية تقاس من خلالها سياسة أي دولة ، وقوة الأداء السياسي والدبلوماسي لأي نظام سياسي نابعة منها ، وكلما كانت تلك المرتكزات راسخة وقوية جاءت السياسة معبرة ومؤثرة وفاعلة ، وإلى حين أن تبلغ ما تسعى إليه لحيازة سلاح نووي وفرض أجندتها كما يروج البعض ، فإنها ستجد نفسها في مواجهة متنامية مع المجتمع الدولي ومع قواه العظمى لا طاقة لها على تحمل تبعاتها لا عسكرياً إن حصل ، وهذا مستبعد ، ولا دبلوماسياً وسياسياً وهو الأرجح ، في حال تعثرت خطوات التفاهم لسبب ما .
ثمة من يعتقد بضرورة إنجاز “صفقة” أمريكية – غربية مع إيران في أسرع وقت كي لا تتدهور الأوضاع في الإقليم ويهتز استقراره ، وثمة آخرون يعتقدون أن المناخ الذي أشاعته طهران في المنطقة من جهة ، وتوجهات سياسة إدارة بايدن عموما من جهة أخرى حتى الآن تجعلان إنجاز صفقة ، حاليا ، غير متاح . مرحلة كسر العظم بين طهران وواشنطن تجاوزتها الأحداث ، ومساعي إيران لرفع العقوبات دون مقابل صار من الماضي ، وحدها سياسة الضغوط لا تزال معياراً للتجاذب بينهما .
لن يضيف الرئيس الأمريكي في هذه المرحلة حزمة أخرى من العقوبات على إيران ، ولن يلجأ كما هو واضح إلى التراجع عما هو مفروض سابقا . الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض لا ترزح تحت ضغوط ، ولا تعاني من تهديد جدي وخطير كما يلوح به الجناح العسكري الإيراني . استوعبت واشنطن قنابل إيران “الصوتية” في العراق دون الانزلاق إلى احتكاك ميداني مباشر مع وكلائها . التزمت نهجاً سياسياً تجاه طهران بعيداً عن الاستفزاز . طهران أفرغت كل ما في جعبتها ، وخَفَتَ بريقُ استعراضاتها السياسية والإعلامية . فُرَصُ اتفاق جديد ، أو متجدد ، باتت مرهونة بحدي معادلة محكمة التوازن ؛ مطالب المجتمع الدولي من طهران لا مناص من تلبيتها مقابل رفع العقوبات عنها .