عرّاب الكينونة (2 من 2)
حجّة الإثم تلقّننا درساً يقول إن تبكيت الضمير ليس مجرد الإحساس بالإثم، ولكنه ضرورة للتكفير عنه لتحقيق الخلاص.
وما اشتراكهما في الدلالة سوى تنبيهٌ إلى تماهيهما كجوهر. فالإثم، في صفقة التحرّر، رهين التبكيت، لأن الإنسان إذا كان خليفة الله في الأرض، فإن الضمير هو خليفة الله في الإنسان. والمحكمة التي يتوجّب على الإنسان أن يحتكم إلى ساحتها، ليست المحكمة الدنيوية، التي يتربّع على عرشها قضاة فانون، ولكنها محكمة الضمير، التي يتربّع على عرشها ربّ السماوات والأرض، وهي وحدها الأجدر باستنزال الحكم في حقّ سلالة موبوءة بجرثومة الإثم. والقصاص الأقسى، عادةً، لن يكون سوى تسليط الضمير على صاحب الإثم، الذي لا نجاة له من سياطه، إلّا بالتوبة. هذه التوبة التي اعتمدتها الديانة المسيحية في حرف الاعتراف!
ومفعول الاعتراف، كقصاصٍ عادل، رهين مدى الإخلاص في اعتناق آلام الإثم، أي مدى عمق تبكيت الضمير، في واقع الكنيسة في مراحل هيمنة الروح، أي قبل أن تعتنق دين الحرف، ليتحوّل الاعتراف في ممارساتها شعيرة تجارية، ما لبثت أن استقامت في صكوك غفران!
فقياس الإيمان، إذا حكّمنا مفهوم البدايات للإثم، القرين لجناب الضمير، هو مدى الاستجابة لتقبّل تبكيت الضمير، وقبول الألم كشهادة تحرير، كشهادة تطهير، تماماً كما سوّقه ديستويفسكي في حقّ راسكولنيكوف، بطل “الجريمة والعقاب”، الذي اقتصّ من نفسه بحريق التبكيت، قبل أن يقتصّ منه القضاء بالعقاب الحرفيّ، والدليل ما ورد في حيثيّات الحكم المخفّف، الذي لعب فيه تبكيت الضمير دور الشفيع.
ولمّا كانت لغة الخليقة الأولى ملفّقة، أو يتوجّب أن تكون ملفّقة، كما تُجمع محافل الحكمة، من حرف ساكن واحد، مضافاً إليها الحروف الصائتة، فهذا ما سيدفعنا لاستنطاق بُنْية “بكّا” (باء + كاف)، لما تخفيه من ذخيرة مذهلة، في حال حكّمنا في حقّها رُقية خارقة هي ما أطلقنا عليه اسم “اللغة البدئية” في موسوعتنا “بيان في لغة اللاهوت”، لتهرع لنجدتنا هذه الشفرة المجهولة، لتكشف لنا عن قناعٍ، غرّب عنّا كنز المفهوم طويلاً جداً. وهو ما يفضحه peccat في لسان أهل الصحراء الكبرى، والمعتمد في اللسان اللاتيني، مع إضافة إسميّة في هذه اللغة هي um، كتركيبٍ بين حرفين ساكنين حاملين لأمانة خطيرة، هما الباء والكاف، الدالّين في المصرية القديمة أيضاً على ذات المفهومين المرجعيّين إذا تعلّق الأمر بخطاب اللاهوت، لأن دلالة الباء تعني الروح، ودلالة الكاف تعني الجذر، أو الكيان، أو حرفياً: الجسد. والتاء في peccat، أداة تأنيث. وهو ما يعني أن وقوع أمرٍ جلل كالإثم، إنما هو نتيجة لاستواء هذين القطبين (الروح والجسد)، في صفقة مشبوهة، والقصاص على هذا التجديف هو تبكيت، بصفته ترجماناً للإزدواج بين طرفين، هما بالسليقة متعاديين، لأنهما سليلَين لطبيعتَين مختلفتين، كتصريحٍ بتوبة لم تكن لتكتمل إلّا بالطرد من الفردوس. وهو ما يبرهن على أن فكرة الإثم كانت العَصَب الشفيع، في انتزاع الغفران، الذي استبدل الحُكم بالمحو، بالإعدام، إلى حُكمٍ مخفّف، اكتفى بتجريد صاحب الإثم من ماهيّة الحضور في الفردوس، ليتولّى اللسان الإغريقي، المجبول بالمأساة، التعبير عن الوضع، الناجم عن المنفى، في كلمة: مرثيّة، ترجمةً للإثم، لأن ما يليق بالطريد من نعيم حرية الأبعاد القصوى، هو بكائية (لاحظوا هيمنة الباء والكاف هنا أيضاً) كما تطرحه العربية، لتستقيم الأنشودة في بلاء، لا عزاء فيه سوى أن يدمن المخلوق الضائع رثاء نفسه، لنفسه.
فالتبكيت، تبكيت الضمير، هو ما يليق بالإنسان، منذ الآن، ليغدو في بطاقة تعريف الإنسان: هويةً! فالويل، ثمّ الويل، لأولئك الذين لا يحسنون التبكيت!
فالإثم، كمفهوم، هو عرّاب الكينونة، ولكن الغفران رهين عبور جحيم أشرس أجناس التبكيت، الذي ألفناه في معجمنا في “تأنيب الضمير”، فحقّ لبطل الجيل أن يتغنّى بهوية الاسم المستعار من سقطة إثم، المدفون في طينة عدم، وإلّا لما تباهى المخلوق بلقب: آدم، المستعار من العدم، لأنه بالإثم معدومٌ، أي فانٍ، لأنه بالفناء نال القصاص الذي استنزل في حقه الحرمان من الخلود!