اخترنا لكم

السلام في ليبيا… عقبات المعجزة المنشودة

حسن أبو طالب


أكاديمياً تعد أزمات الانفلات الأكثر تعقيداً في تحويلها من خطر إلى فرصة، إذ يكثر أطرافها الرسميون وغير الرسميين، ولكلٍّ منهم استراتيجية وأهداف غير معلنة، وأخرى معلنة يتمُّ التشدُّقُ بها لأغراض دعائية فحسب. الحالة في ليبيا هي من نوع تلك الأزمات. أطرافها عديدون، وأصحاب الأرض المتصارعون ليس لهم القوة التي تتمتع بها الأطراف الخارجية. والحديث عن التطلع إلى تسوية ليبية – ليبية غير خاضعة لضغوط خارجية هو نوع من التمنيات المرغوبة، ولكنها غير ممكنة واقعياً حتى الآن على الأقل، والأكثر دقة أنَّها تتطلب شروطاً لم تنضج بعد.

المبدأ الأكثر أهمية وحجر الزاوية هو أنْ يتوصل الليبيون إلى رؤية تقبل التطبيق على الأرض تجنِّب بلادهم الاستعمار والمرتزقة والحرب والخراب. هو أمر يستحق التأييد والمباركة ولا يقبل النقاش. بعض الآمال تحركت في هذا الاتجاه بعد بيانَي فايز السراج وعقيلة صالح، رئيسي المجلس الرئاسي ومجلس النواب المنبثقيْن عن اتفاق الصخيرات الذي يمنح الشرعية الدولية النظرية لكليهما، وهما البيانان اللذان يدشنان نظرياً الميل إلى حلول سلمية بعيداً عن قعقعة السلاح، بتأييد إقليمي ودولي، لا سيما أنهما يتحدثان في أمور مشتركة مثل وقف إطلاق النار وانتخابات رئاسية، وإخلاء البلاد من المرتزقة وضخ النفط وضمان إيراداته من دون تصرف، إلى أن تتم التسوية السياسية المقبولة من كل الليبيين.

الاتفاق على المبادئ العامة جيد في حد ذاته، لكن خبرات التفاوض تضع محاذير بالنسبة للاكتفاء بالاتفاق على الكليات والعموميات، فالأهم هو مدى تقارب التفاصيل ومدى واقعيتها ومدى القدرة على تحويلها إلى أمر واقع يرى فيه الجميع مصلحة وحياة. قراءة البيانيْن المُشار إليهما تكشف عن تباينات مهمة، أو بالأحرى عن رؤيتين متباعدتين لكثير من القضايا الجوهرية للتسوية المرتقبة. فبينما يربط فايز السراج وقف إطلاق النار وتفعيله على الأرض بنزع السلاح لسرت والجفرة -وهما الخط الفاصل بين طرفي الأزمة- ووضعهما تحت حماية قوات شرطة من حكومتي الوفاق وعبد الله الثني، لم يُشر بيان عقيلة صالح إلى أن تكون سرت منزوعة السلاح، وفي حديث له قال إنه لم يتم التطرق إلى هذا الأمر، ولكنه يتطلع حسب البيان إلى أن تكون سرت مقراً للحكومة الجديدة بعد تشكيلها في مرحلتها الانتقالية. هنا نجد هوّة كبيرة تفصل بين الموقفين.

بالطبع نزع سلاح سرت والجفرة من دون الحديث عن مصير الميليشيات في غرب ليبيا وفصائل المرتزقة السوريين وغيرهم من الذين ورّدتهم تركيا لحساب حكومة السراج، وما زالت تفعل من دون أي حرج، ومن دون الحديث عن مصير حشود هؤلاء المرتزقة والمستشارين الأتراك الذين تم إعدادهم طوال الأشهر الثلاثة الماضية لاقتحام سرت والجفرة والسيطرة الكاملة على الهلال النفطي، كل ذلك هو في الواقع شرطٌ مستحيلٌ حدوثه. ليس لأنَّ الجيش الوطني الليبي يرفض المقترح والفكرة من الأساس، ولكن بسبب أن مطلب السراج هو مطلب تركيا بالأساس، صحيح تدعمه ألمانيا لاعتبارات خاصة بفشلها في مواجهة الابتزاز التركي ولضعف الحكومة الألمانية أمام الجالية التركية، وتميل إليه الولايات المتحدة لاعتبارات خاصة برغبة البيت الأبيض في تحقيق أي إنجاز خارجي قد يفيد الرئيس ترمب في حملته الانتخابية… لكن الصحيح أيضاً أن إخلاء سرت والجفرة من السلاح يعني أن يتمَّ تسليم تلك المنطقة الحيوية لميليشيات الوفاق والمرتزقة السوريين والأتراك على طبق من فضة ومن دون أي قتال. ويعني أيضاً هزيمة نكراء لكل من يدافع عن وحدة التراب الليبي والسيادة الحقيقية للدولة الليبية. ومن المهم التذكير بأنه قبل ليلة واحدة من صدور بيان السراج، كانت هناك طائرة نقل تركية عملاقة قد حطَّت في مطار الوطية محمّلة بعدد آخر من المرتزقة السوريين ومعدات وأطقم فنية لإنشاء قاعدة جوية تركية، جنباً إلى جنب الاتفاق على تحويل مصراتة إلى قاعدة بحرية تركية تموِّلها قطر.

هذه الإشكالية الخاصة بسرت وغيرها من الأراضي والمواقع الليبية لا حل لها إلا بطرح متوازن، فنزع سلاح سرت والجفرة يجب أن يسبقه سحب كل فصائل المرتزقة السوريين إلى خارج الأراضي الليبية، وأن يتم توحيد المؤسسات الأمنية الليبية وفقاً للمعايير الدولية وتحت إشراف دولي صارم، وأن ينسحب العسكريون الأتراك من مصراتة والوطية، وأن يتوقف العمل في تحويلهما إلى قواعد بحرية وجوية تركية تنهش من سيادة ليبيا التي يتطلع إليها السيد فايز السراج، والتي لا يرى منها سوى نزع سلاح سرت والجفرة.

إشكالية سرت تنسحب أيضاً على مسألة إعادة ضخ النفط، وعدم التصرف في عوائده إلا بعد التوصل إلى تسوية شاملة، وهذه بدورها مرهونة بشروط جوهرية، أبرزها أن يتم التوصل إلى نظام محاسبي موثوق فيه بإشراف أممي لا يسمح لأي طرف كان بتحويل الأموال إلى حكومة الوفاق الحالية التي تحوّل الملايين تلو الملايين من الدولارات إلى أنقرة والشركات التركية، وفق اتفاقات خاصة توفّر لها مزايا غير مسبوقة كالتحكم الكامل في كل تجارة ليبيا من الصادرات والواردات والسيطرة على المنافذ البحرية الليبية، والحصول على تعويضات للشركات بزعم تحملها خسائر لم تحدث، وتلك بدورها تخصم من سيادة ليبيا وتقنّن نهب الثروات الليبية لحساب تلك الشركات، بعضها مملوك لأقارب وأنسباء وأصدقاء الرئيس التركي. فكيف سيكون الحال إن سُمح لتلك الحكومة بالسيطرة على العوائد النفطية من دون أي جهة محاسبية ينظّم عملها دستور موثوق فيه ومقبول من كل الليبيين؟

في شروط التسوية الشاملة التي تتناثر حولها التصريحات المحلية والدولية، وما ورد في مقررات مؤتمر برلين وإعلان القاهرة، قضية تفكيك الميليشيات، على اعتبار أن أي دولة محترمة لا يستقيم الأمن فيها إلا من خلال مؤسسات دستورية، والحقيقة أن تلك مشكلة تخص السراج شخصياً ووزير داخليته الطموح باشا أغا، الذي يطمح لأن يكون بديل السراج لدى الباب العالي في أنقرة، ويسعى إلى تشكيل حرس ثوري على غرار التجربة الإيرانية، تمولّه قطر وتدرّبه تركيا، ويكون بمثابة ذراع أمنية لطموحاته الشخصية المدعومة بالطموحات الإخوانية. الأمر على هذا النحو يجسّد معضلة جوهرية في موقف السراج، فإن لم يكن قادراً على منع تكوين ميليشيات جديدة ضد فكرة الدولة والسيادة والمعايير الدولية، فكيف سيتصرف هو وحكومته مع إشكالية تفكيك الميليشيات وجمع السلاح غير المشروع؟ أما الانتخابات الرئاسية الموعودة فليست واردة قبل حل تلك العقبات الكبرى.

إصدار بيانات تدعو لوقف إطلاق النار خطوة تدعم الحل السلمي تعد جيدة نظرياً، لكنّ بناء الدول والحفاظ على سيادتها ومواردها واستقلالها وشعوبها ليس بالبيانات مهما كانت مُحكمة الصياغة. المهم الإرادة والثقة بالنفس والصدق في النيات. إنها شروط لا تقبل التنازل، وما زال البحث جارياً عنها.

نقلا عن الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى