«طالبان» تحكم أفغانستان… عام من المعاناة والشكوك
في كلمة الرئيس بايدن التي أعلن فيها نجاح استخبارات بلاده في قتل زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري بأحد المباني السكنية بالعاصمة الأفغانية كابل، ركز على أن العالم أصبح أكثر أمناً من ذي قبل، وفي اليوم التالي أصدرت الخارجية الأميركية تحذيراً للمواطنين الأميركيين أن يكونوا أكثر حذراً ووعياً تحسباً للتعرض لعمليات استهداف من قبل «القاعدة» رداً على مقتل زعيمها.
الفارق بين الفخر بعملية القتل لشخص يعد في العرف الأميركي إرهابياً يجب التخلص منه، والتحذير من عمليات انتقامية تبدو مرجحة ولو بعد حين، لا يتوقف وحسب عند المفارقة والتناقض في المعنى بين عالم بات أكثر أمناً من ناحية، ومخاطر متوقعة من ناحية ثانية، بل يمتد إلى الأسلوب الذي تعتمده الولايات المتحدة في التعامل مع أفغانستان في ظل حكومة «طالبان» التي لم يعترف بها أحد حتى الآن. ومن وراء ذلك الحالة العامة التي وصلت إليها أفغانستان بعد عام من سيطرة حركة «طالبان»، ورؤيتها الدينية الآيديولوجية المتخاصمة عملياً مع أسس الإسلام ومقاصده الرشيدة، بداية من التساؤل حول طبيعة علاقة «طالبان» بـ«القاعدة»، ومروراً بكيفية مساعدة المجتمع الدولي ككل للشعب الأفغاني لكي يستعيد حقوقه في الحياة الطبيعية، ونهاية بالاعتراف الدولي بحكومة «طالبان» ووفق أي شروط.
واقع الأمر أن المعضلة هنا ذات شقين؛ أولهما يتعلق بحركة «طالبان» ذاتها وما اتخذته من قرارات سياسية ومجتمعية أكدت أنها لم تتجاوز مفاهيمها الرئيسية التي حكمت بها أفغانستان قبل عقدين كاملين، كأن الزمن يعود إلى الوراء، ومن دون أي محاولة للإفادة من بعض التحولات التي حدثت في البلاد، لا سيما في مجال الإدارة العامة، وتعليم البنات والفتيات، والنظر إلى المرأة كعنصر مهم وإيجابي في حركة المجتمع، ورفض الاعتراف بتعددية المجتمع الأفغاني عرقياً ومذهبياً، وإنكار الحقوق المدنية بشكل عام.
والثاني يتعلق بالمواقف الدولية شبه الجماعية بتجاهل ما يجري في أفغانستان، اللهم من زاوية واحدة وحسب تتعلق بمدى تحولها إلى ملاذ لجماعات يعدها العالم إرهابية وتجب مكافحتها في أي مكان وبأي وسيلة. وقد ارتبط هذا الموقف المركزي برؤية أكثر عمومية ترى ما يجري في أفغاستان باعتباره أقل أهمية من قضايا وأزمات أخرى تتسم بالخطورة كالحرب الأوكرانية والتوتر المتصاعد حول مصير تايوان، وهي القضايا الأهم التي تتطلب بدورها التركيز والمتابعة الدقيقة ولا تترك وقتاً أو جهداً للتفكير فيما يجري بمواقع أخرى. وهكذا تُرك الأمر نسبياً إلى الأمم المتحدة ووكالاتها الإغاثية والتنموية لتقديم بعض المساعدات للأفغان المكلومين، والتواصل مع قادة «طالبان»، لعل وعسى تتوافر لديهم الإرادة لاتخاذ خطوات عملية تحسن الوضع العام في البلاد، وتسمح بالانفتاح على العالم الخارجي.
في ظل هذه العلاقة المرتبكة بين «طالبان» والعالم ككل، زادت معاناة الأفغان وسُدت أمامهم أبواب الأمل في العيش بكرامة، وغابت فرص عمل تعينهم على متطلبات الحياة، ولم يعد أمام الغالبية سوى انتظار مساعدات غذائية أو مالية غالباً لا تستمر طويلاً، وبات الهاجس الأكبر أمام الأجيال الجديدة التي نشأت في ظل الحكومة السابقة، ولم تعرف كيف كانت تحكم «طالبان»، هو كيفية الخروج ولو سيراً على الأقدام إلى بلد آخر يقبل هجرتهم ويوفر لهم مكاناً للعيش الآدمي.
وفقاً لتقارير بعثة الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية، فالوضع العام يزداد قتامة يوماً بعد آخر، ومعدل الفقر وصل إلى أكثر من 95 في المائة من السكان البالغين 40 مليون نسمة، والغالبية العظمى تفتقد العمل المنتظم ويواجهون خطر الجوع، واللجوء إلى زراعة وتجارة المخدرات التي تترواح بين مليارين ومليارين ونصف المليار من الدولارات، بات مخرجاً من العوز والحاجة لدى غالبية سكان المناطق الريفية، وينتشر الإدمان بين 10 في المائة من إجمالي السكان، ومنهم سيدات وأطفال في حدود مليون ونصف المليون يتعاطون المخدرات.
وتشير تقارير منظمة العفو الدولية إلى انتهاكات إنسانية بالغة الخطورة من قبيل القتل خارج القانون، والاختطاف والتعذيب المنهجي لمن يعتقد أنهم معارضون أو أعضاء في جماعات مناهضة لحركة «طالبان»، علاوة على إقصاء النساء من المجال العام وفرض قيود شتى على تحركاتهن خارج المنازل، وهو ما تصفه مصادر «طالبان» بالمزاعم، وتركز على أن الحالة الأمنية باتت أفضل كثيراً مما كانت عليه قبل سيطرتها على البلاد، وتعلل ممارساتها الإقصائية ضد النساء بكونها متوافقة مع ما تعتقده الشريعة الإسلامية.
ويظل الترقب الدولي بشأن تحول أفغانستان إلى ملاذ للجماعات الإرهابية عنصراً رئيسياً فى تأخر الاعتراف بحكم «طالبان». والواقع هنا يتضمن مفارقة جوهرية ذات جذور في مرحلة ما تعده الحركة مرحلة الكفاح ضد الوجود الأجنبي الدولي، وهي التي شهدت تعاوناً وثيقاً بين «طالبان» من جهة، وكل من «القاعدة» و«داعش – إقليم خراسان»، ومجموعات مسلحة مختلفة أسست على اعتبارت قبلية ومناطقية من جهة أخرى.
وبينما تشهد العلاقة بين «طالبان» و«القاعدة» مزيجاً من ولاء «القاعدة» لزعيم «طالبان» وحكومته، مقابل تقديم «طالبان» الحماية والملاذ لعناصر «القاعدة»، ولكن دون إتاحة تهديد صريح للمصالح الأميركية والإقليمية، فإن علاقة «طالبان» و«تنظيم دولة خراسان الإسلامية» هي علاقة صراع بكل ما يعنيه ذلك من معانٍ وسلوكيات. وثمة أسباب آيديولوجية عميقة تبرر هذا الصراع، فـ«طالبان» تعد حركة محلية أفغانية تسعى إلى حكم البلاد وفق رؤية دينية تلتزم ما تعده الشريعة الإسلامية وفقاً لفهم وإدراك قادتها وشيوخها الشرعيين. أما «تنظيم ولاية خراسان»، الذي يعنى بكل أفغانستان وأجزاء من إيران وباكستان وقرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان، فيرى قادة «طالبان» متواطئين مع العدو الأكبر الولايات المتحدة، وهدفه الأكبر إنشاء دولة في المناطق المذكورة ينشئ فيها حكماً إسلامياً يماثل مع ما تم فعله في العراق وسوريا قبل أن يتم القضاء على ما عرف بالدولة الإسلامية، وللتنظيم منهج مختلف في التعامل مع المرأة، يناقض الرؤية الإقصائية لـ«طالبان»، إذ يعد المرأة عنصراً فعالاً في الدعاية للدولة الإسلامية، ومجاهدة تراقب بنات جنسها للتيقن من ولائهن للدولة وزعيمها، والمشاركة في بعض الأعمال القتالية. وينتشر «تنظيم خراسان» في مناطق جنوب البلاد، ويوجه ضرباته إلى العاصمة كابل وبعض الولايات محدودة السكان والمناطق التي يسود فيها الشيعة.
كما تواجه «طالبان» حركة تمرد ومقاومة فى إقليم بانشير، ويتزعمها أحمد شاه مسعود الابن، المتحدر إلى عرقية الطاجيك، ولكنها محدودة التأثير حتى الآن، وتفتقر إلى الموارد التي تساعدها في توجيه ضربات لقوات «طالبان». ومع ذلك فهي تعبر عن حالة عدم رضا من سياسة «طالبان» الإقصائية للمكونات العرقية غير البشتون، ما يدعم لدى كثير من دول العالم عدم أهلية «طالبان» للحصول على الاعتراف الدولي، ويزيد عزلتها ويفاقم معاناة الأفغان إلى مدى يبدو ممتداً.