الكنيسة والدولة في روسيا
العلاقة بين الكنيسة والدولة في تاريخ العالم الغربي كانت علاقة صراع دائم، يحكمها قانون الغالب والمغلوب، لا حلول وسط فيها.
فقد هيمنت الكنيسة على الدولة زمنا طويلا قبل الثورة الفرنسية، وقبل انتشار القيم العلمانية وتحولها إلى مبدأ دستوري يقتضي الفصل بين الكنيسة والدولة، بحيث يكون لكل مجاله، ولكل سلطانه.
وقد تأثر العالم الثالث، خصوصا العالم العربي والإسلامي، بهذه الصيغة الأوروبية للعلاقة بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، لأنه لم يعرف من تجارب البشر غيرها، ونظرًا لهيمنة عقلية التقليد على الفكر العربي والإسلامي، فقد كان النموذج الغربي حاضرًا، سواء في هيمنة المؤسسة الدينية على الدولة، أو الانفصال التام بين الاثنين.
ولم يلتفت كثيرون إلى نماذج أخرى من العلاقة بين الكنيسة والدولة مثل حالة روسيا، التي لم تشهد في تاريخها الذي يمتد لأكثر من ألف عام، سعيا من الكنيسة للهيمنة على الدولة.. بل كان الحال على العكس من هذا تماما، فقد كانت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية في خدمة استقرار واستمرار وتماسك وعظمة الدولة الروسية، حتى في ظل الاتحاد السوفييتي الذي قضى على كل المؤسسات الدينية، ولم تتحول الكنيسة الروسية إلى عدو للدولة، التي استولت على جميع ممتلكاتها، وقلصت جميع أنشطتها وأدوارها، بل دخلت الكنيسة في حالة صمت وصوم عن الكلام حتى سقط الاتحاد السوفييتي وعادت قوية متماسكة كما كانت.
ولعل ذلك يعود إلى طبيعة دخول المسيحية إلى روسيا ذاتها، والتي تمت بصورة تلقائية، دون فرض ودون صراع سابق أو لاحق، فقد تحول الأمير الروسي، الذي تعود أصوله إلى الفايكنج، “فلاديمير الأول”، إلى المسيحية عام 988م، وأصبح يسمى القديس “فلاديمير الأول”، وقد شجع شعبه على اعتناق الدين الجديد، ولم يفرض المسيحية عليهم كما فعل الإمبراطور الروماني قسطنطين عام 313 م. حين كان اعتناقه للمسيحية بداية لفرضها على الشعب وتهميش واضطهاد الأديان الأخرى.
ومنذ دخول المسيحية في نسختها الشرقية الأرثوذكسية إلى روسيا، والكنيسة تدين بالولاء للدولة، وتسعى دائما للحفاظ على استقرارها وازدهارها، ولا تتصادم معها، أو تقف موقف العداء لقراراتها وأفعالها، بل تساندها أو تلتزم الصمت.
وحين أراد بطرس الأول -حكم روسيا من 1695 إلى 1725- إدخال روسيا إلى عالم الغرب الحديث، وبنى المدن الحديثة، وأدخل الفنون والآداب، وسعى لتقليد الحداثة الغربية بكل قوة، في كل ذلك لم تقف الكنيسة موقف التصادم معه، رغم أنها لم تكن على رضاء تام بما يفعل، خصوصا عندما أمر بحلق اللحى، وبدأ بحلق لحيته، وكان يعين الحلاقين لحلق لحى الشعب، حتى يكونوا على صورة “الجنتلمان” الغربي.
ظلت الكنيسة الروسية محافظة على القيام بمهامها الروحية وخدمة الدولة، ولا ترى تصادما بين الخدمتين، بل تراهما خدمة واحدة، ففي بقاء الدولة واستقرارها وازدهارها دعم للخدمة الروحية.
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وعودة الكنيسة إلى دورها في المجتمع الروسي ومساندتها للدولة، ورغم أن دستور روسيا الاتحادية منذ 1990 ينص على علمانية الدولة والمساواة بين جميع الأديان وحياد الدولة أمام الجميع، فإن الكنيسة الأرثوذكسية التي تمثل 70٪ من الشعب الروسي تقوم بدور الأخ الأكبر، أو هي في مقام الأول بين الأقران عند الدولة، وهذا الدور فرض على المؤسسات والمرجعيات الدينية عند الأديان الأخرى أن تسلك الطريق ذاته، وأن تخدم الدولة وتدعمها وتحرص على أن يكون أتباعها مواطنين صالحين ينتمون لدولتهم، ويحترمون نظمها وقوانينها، ويعملون بصورة دائمة على رفعتها وازدهارها.
لذلك، نجد المسلمين، الذين يمثلون نحو 21٪ من سكان روسيا، تحرص مؤسساتهم ومرجعياتهم على أن تكون مساندة للدولة، خادمة لأهدافها، عاملة على تقدمها وازدهارها، وألا تتصادم معها، أو توجِد من الولاءات ما ينال من ولاء أتباعها لدولتهم، وفي المقابل تقف الدولة الروسية موقف الراعي لكل شعبها دون تمييز، وتسعى لتحقيق العدالة بين جميع الأديان، وتوظف مواردها لخدمة الكل، وتحقيق احتياجاتهم الدينية، وتترك لهم الحرية في تنظيم أنفسهم، وتعترف الدولة بكل المرجعيات والمؤسسات التي تنشئها الطوائف الدينية ولا تتدخل فيها.
نموذج الكنيسة الروسية في علاقتها مع الدولة يحتاج إلى دراسة معمّقة، لعله يفيد الكثير من الدول العربية في إصلاح وتطوير المؤسسات الدينية، وخلق ثقافة جديدة، تجعل من المرجعيات الدينية مصدر استقرار وعامل ازدهار، وليست منافسة للدول، أو ساعية لأن تنال من سلطاتها.