قال العقلاء من أهل السياسة “حين تنجح في اجتياز طريق وتمر منه، لا تلق خلفك شوكا حقدا على من يمرون بعدك، لأنه قد تجبرك الظروف على المرور من نفس الطريق، وقتها ستذوق بنفسك ألم شوكك”.
هي إذن نفس التجربة التي يعيشها “أردوغان” الآن فجميع الدروب التي مر بها وألقى فيها شوكا، هو الآن معذب بشوكه. الطريق الذي فتحه في سوريا ورمى فيه شوكه، من تجنيد للمتشددين وإنفاق وإهدار لكثير من مقدرات شعبه، ذلك الطريق الذي أحس لوهلة أنه اجتازه بعد أن لاح له في الأفق وهم المنطقة العازلة والتقارب الأمريكي ومعاركه ضد الأكراد كل ذلك يتبخر، كل ذلك أصبح شوكا مجبرا على المشي فوقه حافيا .
الطريق الذي مر منه إلى ليبيا ونثر فيه أشواكه وألغامه وأحقاده، وظن لوهلة أنه نجح حين وقع اتفاقيات مع السراج، أمنية وأخرى اقتصادية، اكتشف فجأة أنه مجبر على العودة من نفس الطريق ليذوق شوكا آخر .
الطريق الذي سار فيه لإضعاف مصر، وبعد أن استقر أو امتلك لأيام في طرابلس ونشر ميلشياته ومرتزقته وجلس أمام جماهيره، وهو يشرح على خارطة كبيرة ليتباهى بحدود تركيا التي يريدها، تركيا العثمانية بجغرافيتها القديمة. اكتشف فجأة أن الطريق مغلق في وجهه وعليه العودة من نفس الدرب المملوء بالشوك، اكتشف خسارته بعد أن أدارت مصر ملفها بهدوء ونجحت في إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، ثم وقعت مع اليونان اتفاقية ترسيم الحدود التي ألقته خارج كعكة الغاز والنفط.
أردوغان سار أيضا في طريق إلى الغرب ونثر فوقه شوك اللاجئين، الذين تحولوا إلى ورقة سياسية دون أدنى اكتراث بإنسانيتهم، يلاعب بهم الغرب ليحلبهم بحجة أنه يمنع عنهم سيول الهجرة غير الشرعية واللاجئين. وفجأة اكتشف أن الغرب كله ضده وأن فرنسا ومعها ألمانيا ودول غربية أخرى تصعد في لهجتها بما يصل إلى حد الحرب في شرق المتوسط .لم يصل حد التهور السياسي عند هذا الحد وإنما فتح على نفس كثيرا من الجبهات التي كانت كلها تضخ عليه نارا في نفس الوقت .
جبهة مع العراق في إقليم كردستان، وجبهة أخرى في الصومال، حيث أقام قاعدة عسكرية ابتلعت ميزانيته وقوت شعبه، فاكتشف أنه هناك يصارع السراب، أو كالذي يريد حلب الثور في بلاد تحتاج أكثر ما تعطي .
هو أيضا دخل إلى تونس طامعا في موطئ قدم له عبر حليفه الإخواني “حركة النهضة والغنوشي”، فاصطدم باستفاقة الشعب التونسي الذي يسعى إلى عزل حركة النهضة وزعيمها، فلم يمرر اتفاقاته الملغومة ولم يترك حليفه قويا كما كان. ومع الوقت أدرك أنه وضع نفسه في زنزانة الضيق السياسي، وبات كقط محبوس مذعور لا يملك إلا ” الخربشة في الجدار ” فلا الجدار سيقع ولا القط سيخرج .لعبة الدومينو، حين تنغلق على الخاسر من كل الجهات، أو لعبة الشطرنج حين يموت الملك .
أردوغان الذي صور للجميع أنه أستاذ احمد داوود أوغلو وزير خارجته السابق، ورجله في السياسة قبل أن ينقلب عليه ويؤسس حزبه الخاص، الكل يذكر حين ظهر أوغلو بنظريته الجاذبة وقتها “تصفير المشاكل”، قال البعض إنه يترجم سياسة وضعها أردوغان .
ومع توالي سنوات التاريخ ثبت أن “أوغلو ” كان نشازا في اللحن الأردوغاني، ما لبث أن طرده أو هرب منه . سياسة أردوغان الآن عكس سياسة “أوغلو ” فلم تعد سياسة صفر مشاكل بل أصبحت سياسة كل المشاكل وفي وقت واحد، سياسية محاربة طواحين الهواء، سياسة صناعة الصراع والفشل في إدارته، سياسة صناعة الكراهية والفشل في التعامل معها، سياسة زرع الفتن وجني ثمارها بنفسه وعلى نفسه، سياسة إطلاق القنابل في السماء مع عدم تقدير سقوطها فتسقط فوق رأسه.
لم يكتف أردوغان بفتح كل هذا الجبهات الخارجية في وقت واحد، وإنما أشعل أيضا جبهات عديدة بالداخل، جبهات تجمع بين السياسي والثقافي، بين التاريخي والفكري، بين الأردوغانية السياسية وبين العثمانية الجديدة. ردد “أردوغان” كثيرا، كما ردد المقربون منه أنه لن تمر المئة عام على إنهاء العثمانية عام 1924 على يد كمال أتاتورك إلا وستكون العثمانية الجديدة قد تأسست، قالوا منذ تأسيسهم حزب العدالة ودخولهم الانتخابات في 2002 /2003، لن تجيء 2024 إلا وقد تأسست تركيا الكبيرة، تركيا العثمانية الجديدة، وعلى نفس خرائطها القديمة، وهنا تفسير توسعاته ناحية المحيط العربي والأفريقي .
بهذا دخل أردوغان صراعا وحشيا مكتوما مع أنصار تركيا العلمانية، تركيا الأتاتوركية، ولأنه خاسر في تلك المعركة من بدايتها، أدار معارضوه معركتهم باحتراف بأن أردوغان يريد تركيا الماقبل “أتاتورك”، يريدها بقوانين عثمانية، حتى الحروف الأبجدية يريدها بالشكل القديم، يريد أن يعيد الأتراك إلى مئة سنة سابقة.
بالتالي أوضحت المراكز البحثية التي تناولت الموضوع، بأن العثمانية الجديدة ما هي إلا هدم للدولة التركية الحديثة، بغض النظر عن مؤسسها أتاتورك أو غيره .
حتى الغرب تعامل مع العثمانية الجديدة باعتبارها خطرا داهما يهدد شكل الدولة في معناها العام، بل ويصنع نموذجا متشددا يجذب إليه المتشابهين معه، وبرروا ذلك بكشف خارطة تحالفاته خصوصا مع جماعة الإخوان في العالم العربي والتنظيم الدولي لهم في أوروبا .لعل ذلك هو الجانب الذي أشار إليه ” ماكرون ” في حديثه عن أردوغان بأنه بات خطرا على الغرب وعلى الشرق الأوسط وأن الشعب التركي يستحق ماهو أفضل .
وقوف الغرب مع اليونان لم يكن مجرد انحياز لدولة عضو في الاتحاد الأوروبي أو عضو في حلف الناتو، وإنما هو وقوف ضد مشروع عرقي عثماني متشدد قبل أن يكون إخوانيا إرهابيا. فتخوف الغرب هو تخوف من هدم نموذج، وهو تخوف من تأسيس مفرخة للإرهاب.
خزينة أردوغان من المشاكل أصبحت ممتلئة عن أخرها، وخزينة أردوغان من الحلول أصبحت فارغة . بعد كل هذا الركض في الدروب ورمي الشوك من خلفه هو محاصر من محيطه العربي.. سوريا العراق وغير بعيد مصر ومعها السعودية والإمارات ومطارد من محيطه الغربي.. اليونان إلى إيطاليا وغير بعيد فرنسا.