لم تستطع جماعة أن تحتل هذا الحيز من اهتمام الناس، كما احتلت جماعة الإخوان، وربما كان أهمّ أسباب ذلك؛ نهوضها بممارسة السياسة والمنافسة على السلطة، أو بالأحرى محاولة حيازتها، سواء على ظهر انقلاب، أو ثورة شعبية، أو تسلّل ناعم في مؤسسات دولة لم تؤمن يوماً بها.
لكنّ الزلزال الذي أصاب الجماعة، أو بالأحرى تجربتها السياسية في مصر، والتي بلغت ذروتها بحيازتها السلطة، للمرة الأولى في تاريخها، في أهم قطر عربي، وهو مصر، جعل كثيرون يتساءلون: هل من الممكن أن تعود الجماعة من جديد لممارسة السياسة، أو تسعى لحيازة السلطة من جديد؟
تبرز وجهة النظر الأمنية التي تقول: إنّ الجماعة كائن سلطوي، مشغول بالحكم، لن يتوانى عن السعي لحيازته من جديد، سواء باللجوء للسلاح أو للتقية، اوالاثنين معاً.
قد تبدو وجهة النظر تلك صحيحة، لو كنا في صدد مناقشة الرغبة، التي تبدو نصف الطريق للسلطة؛ حيث تبقى القدرة هي النصف الآخر.
وعند الحديث عن القدرة، تبرز أسباب بنيوية تجعل عودة الجماعة لممارسة السياسة، أو محاولة حيازة السلطة افتراضاً مستحيلاً، فما هي تلك الأسباب؟
أول هذه الأسباب؛ أنّ حركة المشروع السياسي للجماعة بمنطق الحركة الشمولية، كانت انعكاساً أميناً لأفكار البنا المؤسس عن الدولة، والذي انطوى على تناقض جذري، بين تأييده للنظام النيابي نظرياً، مع تبنّيه عملياً للنظام الشمولي، ورفض فكرة الأحزاب والمؤسسية، حتى داخل التنظيم؛ حيث بقيت مركزية الرجل في حياته ومركزية منصبه كمرشد بعد وفاته أصلاً راسخاً في وعي الجماعة.
ثاني تلك الأسباب، أو قل الجرم الثاني؛ كان في نسبة المشروع السياسي للجماعة إلى الإسلام، إلى حدّ تسمية البنا للجماعة “دعوة الإسلام في القرن العشرين”، بهذا الحصر، فلم تكن انحيازات كثير من تجارب الجماعة السياسية مخلصة لمقاصد الدين في بناء النظام السياسي، من حيث الشورى الدستورية أو الديمقراطية والعدل الاجتماعي والاستقلال؛ حيث تبقى المرجعية الشرعية لا تدخل بفعل الاختصاص والاستقصاء والحصر إلا في دائرة محدودة جداً من النشاط السياسي، الحزبي أو السلطوي، قد تمثل أقل من 25% تتدخل في البرمجة الحزبية على مستوى القيم الكلية، والمقاصد التي يتوخى الدين تحقيقها، والتي تنسجم على نحو واضح مع ما كرّسته التجربة البشرية المفتوحة، التي لا ينبغي نسبتها للوحي، فذلك مفسد للدين والدنيا معاً، كما ذكر الإمام أبو حامد الغزالي.
ثالثاً: لم تكن التجربة السياسية للجماعة خادمة لرؤية إستراتيجية واضحة في معظم المراحل؛ حيث انطوى سلوك الجماعة السياسي على عمى إستراتيجي، وإبصار تكتيكي نسبي، تجد معه أنّ الجماعة في مرحلة الصدام مع الدولة والسعي لحيازة السلطة تتمسك بالمسار الإصلاحي، في الوقت الذي كان يحتم رؤية تغييرية ثورية والعكس صحيح، مما أربك لدى كثيرين داخلها النظرة الوطنية العامة لأولويات العمل السياسي، أفرز ذلك في نهاية التجربة حالة عامة من حالات فقدان الثقة في الجدارة المعرفية والفكرية والسياسية، على مستوى التنظيم والخيارات والمسار، وهو شعور عام لدى قطاعات عديدة داخل وخارج الحركة.
رابعاً: لم تنجح الحركة أبداً في الفصل الكامل بين الدعوي والحزبي، ما أفشل معظم تجاربها، لكنّ أخطر مشاكل الجماعة، والتي ستحول دون عودتها سياسياً؛ هي أنّ فكرة المراجعات حتى في الحدّ الأدنى، مراجعة المسار السياسي، فضلاً عن الفرضيات الفكرية والحركية للمشروع، مرفوضة تماماً من قبل القيادات التاريخية للجماعة، التي ستبقى متمسكة بما يسمى فقه المحنة والمظلومية؛ حيث يبقى أنّ تلك المراجعات تتطلب ليس فقط استعداداً نفسياً للمراجعة والنقد الذاتي، تفتقده القيادة والأعضاء، بل يلزمها أيضاً التحرر من هلاوس الاصطفائية والمظلومية، وامتلاك الحدّ الأدنى من التأهل الفكري والحركي والإستراتيجي، الذي تفتقر له الأجيال المختلفة من الجماعة، والذي يأتي إفرازاً لمسار طويل مأزوم وفقير، تربوياً ومعرفياً، كلّ ذلك فاقمه ميراث معقد من المشكلات النفسية والمعرفية والتربوية، التي أفرزتها تجارب أعوام ما بعد ثورة يناير 2011.
عانت الجماعة، عبر تاريخها، من ضمور في التصوّر، عند الحديث عن الفكر السياسي لها، وهو ما عاناه الإسلاميون بشكل عام، ما كشف لوناً واضحاً من المراهقة الفكرية في الموقف من الدولة الوطنية، سواء على مستوى التصور أو السلوك لدى القيادات أو القواعد، وفي الحقيقة؛ إنّ مبعث ذلك هو التوقف تاريخياً لحركة النظر، وليس فقط التجديد في الفقه السياسي الإسلامي لقرون، وتراكم عشرات، بل مئات، الأسئلة المركزية بلا إجابات شافية، في غفلة عن إدراك لحركة السنن الاجتماعية والسياسية، التي أنتجت تطوراً هائلاً في التجربة الغربية، لم ننجح في الاستفادة منه جميعاً.
في النشأة والتأسيس انطوى الأمر على خلط وتسطيح فكري، وارتكاز على مخاطبة العاطفة الدينية، أكثر من تأسيس منهج تجديد مختلف، وبالتالي راحت السكرة وجاءت الفكرة، التي لم تجد من هو أهل للتعاطي الجادّ والخبير معها.
انشغلت الجماعة بتحقيق مكاسب سياسية والتوسع قصير المدى، وتعجلت المنافسة السياسية والدخول في مساحة سلطة لم تكن أبداً مؤهلة لها، ودون إنفاق وقت وجهد كافييْن في بناء مشروعات حقيقية على مستوى الفكرة والتطبيق، فلم تكن الجماعة مؤمنة يوماً بالدولة الوطنية الحديثة؛ حيث بقيت مصابة بضمور في تصورها عنها، تتغذى على نوستالجيا غير دقيقة لتاريخ غير مزوّر.
جملة الأسباب التي تحدثنا عنها، وما يزال لدينا الكثير منها، تأتي كعيوب بنيوية لا صلة لها بما واجهته الجماعة، أو ما تحدثت عنه؛ من مؤامرات أسطورية، أو قوة الخصوم، فالجماعة تحمل داخلها أسباب انتهائها، وقد مضت إلى معاركها كلّها، تحمل هزيمتها معها، وهو ما يؤكد أنّه بعد كلّ ما عاشته، لم يعد لها من أمل في البقاء بشكلها المعروف، أو عودتها على الأقل إلى منافسة سياسية لم تكن يوماً مؤهلة لها، على مستوى التكوين أو التنفيذ، بعدما أنجزت فقط تعريف نفسها للآخرين، دون أن تتعرف هي على حقيقة ذاتها، وقد تعودت أن تنظر للآخرين وتستصغرهم، دون أن تتجه أبصارها مرة واحدة إلى داخلها، انسجاماً حتى مع التوجيه الإلهي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾!