يبدو التحليل السياسي لاستشراف أنماط التنافس والصراع بين الدول واضحاً ومنطقياً عند الارتكاز صوب فهم عناصر الجغرافيا السياسية، التي تتبنّى دراسة الآثار المتبادلة فيما بين الجغرافيا والسياسة، ما يتيح رسم الرؤى والخطط الاستراتيجية للدول، وكذلك شقّ ملامح السياسة الدولية ومساراتها المستقبلية، في سياق القرارات السياسية مرّة، والصراعات المسلحة مرّة أخرى.
جاء نحت مفهوم “شرق المتوسط” كتعبير جيوسياسي يبلور عدّة متغيرات في محيط الجغرافيا، وما يتصل بها من موارد، وما يرتبط بفرص نشوب صراعات سياسية، ومواجهات خشنة على أطرافه وتخومه المتعددة والمتباينة؛ ليضع تلك المتغيرات في حاضنة ميلاد النظام العالمي الجديد، وما يجب أن تبدو عليه القوى الإقليمية والدولية، في تصور الولايات المتحدة الأمريكية، التي هيمنت على العالم منذ عقود اقتصادياً وسياسياً.
مع نهايات العقد الماضي، كشفت الدراسات المسحيّة عن وجود ثروات هائلة من النفط والغاز في البحر المتوسط، حيث تتركز نسب كبيرة حول شطآن دول الشرق الأوسط، والتي كانت تعاني من شيخوخة في نظمها السياسية، والتي ترتبط شرعية أغلبها بملابسات التحرر الوطني، وظروف التحديات السياسية إبّان الأربعينيات في القرن الماضي، لا سيما أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى خلفية تلك الاكتشافات في شرق المتوسط، أضحى الحصول على الغاز واحداً من الآليات اللازمة لتحقيق معطيات السياسة الدولية، ارتكازاً على الاعتماد المتزايد من دول العالم على الطاقة من الغاز، وارتكان كيانات إقليمية على دعم اقتصادياتها من خلال صادرات الغاز، وبالتالي، مَثّل الغاز وخطوط نقله وتأمينها مسألة حيوية من الناحية اللوجستية، وتحوّل إلى ورقة من أوراق الضغط والمناورة، لتشكيل الجغرافيا السياسية، ومصالح السياسة الدولية، على سطح الأرض، وفي أعماق البحر ومياهه الاقتصادية.
تتجاوز الاحتياطيات الهائلة من الغاز في شرق المتوسط دورها في إعادة تشكيل خريطة المنطقة جغرافيّاً، إلى تشكيل تحالفات سياسية جديدة قائمة على رصد مصالح السياسة الدولية ومن يمثلها، لا سيّما الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتحرّك وفقاً لرؤاها في عدد من مناطق الصراع الخشن، في سوريا وليبيا، ومناطق التنافس في قبرص واليونان، وعلى ضوء ذلك تبدو ملامح أهمية تأسيس منتدى شرق المتوسط، وتحوّله إلى منظمة إقليمية مقرّها القاهرة خلال نهاية شهر أيلول (سبتمبر) 2020، كتطوّر يستجيب للتحديات الراهنة، ومؤشر على مدى الأهمية التي باتت تلعبها ورقة الطاقة في ظل الاكتشافات الجديدة.
الصراع الذي انفجر مرّات متتالية منذ اندلاع ثورات “الربيع العربي”، كان فرصة لانخراط قوى إقليمية ودولية، وتمدّدها في مساحات من الجغرافيا السياسية التي تحقق لها مصالح جيوسياسية، خاصة في الملف السوري، حيث سعت روسيا نحو تأمين مصالحها التي انفرطت منها، بتحركها الاستراتيجي نحو نقطة بالغة التأثير على البحر المتوسط، وهكذا جاء تفكير طهران، التي تسعى نحو الوصول إلى شرق المتوسط، وبالمنطق نفسه يمكن فهم انخراط رجب طيب أردوغان في الملف الليبي عسكرياً خلال الشهور الماضية، وهو يغوص في الصراع السوري إلى أقصى درجة.
لا يمكن بأيّ حال من الأحوال غضّ الطرف عن الأهمية البالغة لتأسيس منتدى شرق المتوسط، الذي ضمّ، إلى جانب مصر، قبرص واليونان وإيطاليا والأردن وإسرائيل وفلسطين، من ناحية صناعة الغاز وتأمين الطاقة، بيد أنّ ذلك الوضع يطرح أيضاً قضية الانتقال من أُطر التعاون فيما بين تلك الدول، إلى الصراع مع الدول غير المنتظمة في ذلك المحور، خاصة الجانب التركي، وانعكاس ذلك على المستوى السياسي، واحتمالات اقترابه نحو انفجار الصراع المسلح.
يبدو إلحاح الجانب التركي في مسألة الطاقة والغاز واضحاً، كون أنقرة تعتمد على الواردات من إمدادات الغاز لتأمين احتياجاتها المحلية، وتنويع مصادر توريدها، فضلاً عن طموحها في التموضع كدولة مركزية، يمرّ من خلالها وعبر أراضيها أحد أهم موارد الطاقة، باعتبارها واحدة من محطات محتملة لتزويد أوروبا باحتياجاتها من الغاز، بيد أنّ ذلك الطموح يقف أمامه علاقات أنقرة غير المستقرة خلال السنوات الأخيرة مع عدد من دول شرق المتوسط، خاصة القاهرة، حيث دخلت العلاقات فيما بين البلدين في نفق مسدود، منذ لحظة اندلاع ثورة 30 حزيران (يونيو) العام 2013، والإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى مستوى الخلاف الاستراتيجي فيما بينهما حول تشابكات الأزمة الليبية، رغم التصريحات الناعمة التي حرص الحانب التركي على طرحها خلال الأيام الأخيرة تجاه القاهرة.
لم يعد خفياً على المتابعين أنّ رؤية أنقرة السياسية في شرق المتوسط استقرّت على ممارسة أقصى درجات الضغط على الأطراف المعنية في شرق المتوسط؛ بغية الوصول إلى لحظة الجلوس والتفاوض حول أطر التعاون، وكلما انفرط عقد تلك اللحظة، زاد اضطراب الجانب التركي، واضطر إلى اللجوء نحو التورط بدرجة أكبر، وهو الأمر الذي أدركته القاهرة، حين جاءت تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فيما يختص بالصراع في ليبيا، وأعلن أنّ سرت والجفرة خط أحمر، وفي تلك اللحظة رأت القاهرة أنّ هذا التوقيت يبدو مثاليّاً للتلويح بظاهر القوة، وبتصريح صادر عن رأس الدولة، وسط استعراض عسكري متخم بكافة تشكيلات الجيش المصري، بريّاً وبحريّاً وجويّاً، ومن خلال قاعدة عسكرية متاخمة للحدود الليبية.
مستوى الخلاف بين أنقرة وأثينا من ناحية، وخلافها التاريخي مع قبرص من ناحية أخرى، يمثل أيضاً مرتكزاً أساسياً، تسعى تركيا نحو تجاوزه، خاصة بعد توقيع اليونان وإيطاليا والقاهرة اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية فيما بينها، الأمر الذي يضع تحديات ضخمة أمام صانع السياسة الخارجية التركية في المنطقة؛ إذ إنّه يتحرك وسط منطقة تبدو علاقاته فيها تعاني من شدة الاضطراب والارتباك؛ نتيجة التحركات العنيفة لرئيس الدولة.
ومن خلال ذلك نستطيع فهم توزيع الأدوار في السياسة الخارجية التركية، من التصريحات الخشنة والناعمة التي تصدر من أطراف متعددة، بيد أنّ حقيقة واقع تلك التصريحات والممارسات السياسية والخشنة على الأرض، فيما يتصل بالجانب السوري أو الليبي، لا تتجاوز رغبة أنقرة في بلورة استعراض قوتها على مسرح أحداث شرق المتوسط، طمعاً في الحضور بأيّ قدر أو نسبة، للتفاوض من أجل المشاركة في الحصول على تلك الثروات التي تسيل أمامها، وتتشكل على تخومها تحالفات سياسية شديدة التأثير على مستقبل المنطقة، إقليمياً ودولياً، اقتصادياً وسياسياً.
يقيناً، يمثل تحوّل منتدى شرق المتوسط إلى منظمة إقليمية مقرّها القاهرة تحوّلاً استراتيجياً في المصالح الجيوسياسية للدول الأعضاء، كما أنّه يكرّس عزلة أنقرة، ويمثل ورقة ضغط جديدة عليها، ما يضع الجانب التركي أمام خيارات صعبة، في صياغة رؤية مستقبلية حول الملفات المفتوحة، والتي يمارس فيها أقصى درجات الضغط.
نقل عن حفريات